تُعرف الأيديولوجيا بنظام المعتقدات والمعايير والقيم التي يؤدي الاعتقاد بها إلى إيجاد معيار للحكم وتقييم السلوك. ربما لا يمكن بسهولة تخيل مجموعة متماسكة ونظام مشترك في النظام السياسي العالمي الحالي حتى نستخرج منهما الأيديولوجيا السياسية الحاكمة على العالم. ومع ذلك، إذا أمكن تعريف أيديولوجيا مشتركة افتراضية في قاموس الحوكمة العالمية، فإن إحدى ركائزها الرئيسية ستكون حقوق الإنسان بلا أدنى شك. يمكن أن نستنتج أن حقوق الإنسان هي عنوان عريض مشترك في نظام الحوكمة العالمية ومعيار مقبول لتقييم شرعية الأنظمة المختلفة في العالم.
بالنظر إلى أن حكومات العالم معرّضة لحكم الرأي العام، وسلوكها تجاه مواطنيها وتجاه الشعوب الأخرى تحت مجهر وسائل الإعلام، يُعدّ استخدام أدبيات «حماية حقوق الإنسان» والعزف على سمفونية الحقوق ضرورة لكل حكومة. فالحكومات الاستبدادية والأوتوقراطية أو المنبثقة عن الأصوات الحقيقية للشعب تسعى كل منها إلى وضع السياسات الداخلية والخارجية وتنفيذ القرارات ذات الصلة بطريقة تجعل الصورة الناتجة استعراضاً لمنع انتهاك حقوق المواطنين أو تجاهل مبادئ استقلال الشعوب الأخرى وسيادتها.
بقدر ما تتمتع الحكومة بوزن وتأثير أكبر على المستوى الدولي، هناك في المقابل توقع أكبر منها في أن تحترم حقوق الإنسان وحقوق الدول في مجالي القول والعمل. في هذا الصدد، وبالنظر إلى رسالة أمريكا المعلنة منها في توجيه العالم وقيادته، وهيمنة واشنطن في المنظمات المهمة والمؤسسات الدولية المؤثرة مثل الأمم المتحدة، وكذلك محاولاتها توحيدَ الأيديولوجية العالمية من أجل منع تشكيل اتجاهات مغايرة ومستقلة، يبدو أن الحكومة الأمريكية هي من أوائل الكيانات السياسية التي تبحث قضايا حقوق الإنسان، خاصة في ما يتعلق بالأنظمة السياسية الأخرى في العالم.
إن إلقاء نظرة عامة على تصرفات الحكومات الأمريكية في مراحل عدة أظهرت تناقضاً فادحاً في أقوال رؤساء هذا البلد وأفعالهم في قضية حقوق الإنسان. يمكن إرجاع التجاهل لحقوق الشعوب في تقرير المصير إلى المحاولات المستمرة لأمريكا في التدخل المباشر وغير المباشر لتغيير الأنظمة والإتيان إلى رأس السلطة بحكومات معينة من قبلها وتابعة لها. لدى رجال الدولة الأمريكيين سوابق كثيرة مسجلة في صحيفة أعمالهم من اتخاذ أبشع الإجراءات ضد الشعوب مثل الهجمات العسكرية والانقلابات. والمفارقة المريرة والمظلمة في القصة أن رؤساء أمريكا، بمساعدة عناصرهم الفكرية وأجهزتهم التنفيذية، سلبوا تلك الشعوب السيادة على أوطانهم، في حين أن شعاراتهم لحقوق الإنسان كانت الأكثر روعة وصرخاتهم لحماية الشعوب هي الأعلى. وفقاً لبعض الدراسات ارتكبت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 81 حالة من التدخل العلني والسري في انتخابات دول أخرى خلال النصف الثاني من القرن العشرين (1946 إلى 2000). وأظهرت دراسة أخرى أن أمريكا أجرت 64 محاولة سرية و6 محاولات علنية لتغيير النظام في دول مختلفة خلال الحرب الباردة.
إن تدخل أمريكا في مصير الشعوب تحت اسم تغيير النظام وبأشكال مثل الانقلابات له تاريخ طويل سواء في البعد الزمني أو الجغرافي، فهو يغطي مجموعة واسعة من البلدان. فالانقلاب ضد ليلى أوكالاني، آخر ملكات مملكة هاواي عام 1893 ثم ضمها إلى الولايات المتحدة، ومحاولة الانقلاب ضد كوبا في 1933 و1961، وانقلاب 1953 ضد حكومة الدكتور مصدق في إيران، والانقلاب في تشيلي عام 1973، كلها أمثلة على التنوع الزماني والجغرافي لممارسات أمريكا في مسألة الانقلابات وتغيير الأنظمة في العالم. والتناقض في الخطاب الأمريكي حول الديمقراطية ومشاركة الناس في انتخاب حكامهم من جهة، وأكثر أساليب التدخل اللاديمقراطية في شؤون الدول، كله يكشف عن عمق النفاق والازدواجية في سلوك رجال الدولة الأمريكيين.
هناك شواهد كثيرة في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية تكشف التناقض في الدعوة إلى السلام العالمي والتعايش السلمي بين الدول، وفي الوقت نفسه استخدام الأساليب التعسفية والعنيفة لفرض أشخاص مرتزقة وتابعين لأمريكا. في مثال، قدّم الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون برنامجاً من 14 نقطة للسلام العالمي خلال خطابه في الكونغرس الأمريكي عام 1918، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فرض المسؤولون الأمريكيون حكومات على شعوب العالم، فلم يكتفوا برفض تقبّل الخصوم، بل أنشؤوا نظاماً مليئاً بالتهديد والترهيب وفي بعض الحالات القتل والتنكيل. على سبيل المثال، بعدما أسس أوغستو بينوشيه انقلاباً وحكومة عسكرية في تشيلي بمساعدة وصفوا أفعاله بمصطلح «الإبادة السياسية».
وفي ما يتعلق بعدد ضحايا النظام العنيف الذي أسسه الانقلاب الأمريكي في تشيلي، ورد ذكر أعداد مختلفة، فقد قُدِّرَ عدد القتلى على يد دكتاتورية بينوشيه بثلاثين ألف شخص.
يمكن طرح هذا السؤال: هل يتشكل نوع من الخطاب السياسي في المجتمع المتعرّض لانقلاب عسكري بأن يكون للشعب دور فيه، وهل تنبثق من قلب هذا الخطاب إرادة سياسية مبنية على إرادة الشعب وتأمين حقوق المواطنين؟ الجواب عن هذا السؤال ليس بهذه الصعوبة لأن المكونات الرئيسية في تشكيل الانقلاب تظهر أن الشعب وآلة الحكم خلال ممارسات مثل الانقلاب يكونان على طرفي نقيض ويتوضعان بعيدين عن بعضهما بعضاً في طيف الحكومة-الشعب. إن تشكيل حكومة عسكرية، واستخدام الأساليب التعسفية والعنيفة في الاستيلاء على السلطة، وغياب مشاركة الشعب، أو ضعف مشاركته، في انتقال السلطة، تجعل الانقلاب عملاً غير منبثق من إرادة الشعب وممارسة غير ناتجة من هواجس تجاه حقوق الشعب.
أبعد من ذلك، فبسبب الدعم الأجنبي للحكومة الانقلابية، وتغاضي القوى الأجنبية عن أوجه القصور وقلة كفاءة الحكومة، تمكن رؤية عدد من حالات الفساد وغياب المساءلة والسلوكيات المناهضة لحقوق الإنسان في الحكومات الانقلابية. في هذا الصدد، تمكن الإشارة إلى الانقلاب الأمريكي عام 1954 في غواتيمالا. من المثير للاهتمام - وبالطبع المؤسف - في هذا الانقلاب، كما الحال في عدد من الحالات الأخرى، أن الحكومة الأمريكية أطاحت عن طريق وكالة المخابرات المركزية بالحكومة التي وصلت إلى السلطة بالعمليات الديمقراطية واستبدلت بها ديكتاتوراً عسكرياً. أدى دعم أمريكا حكومة كارلوس كاستيلو أرماس الانقلابية، وقلة كفاءته في إدارة البلاد، وظهور خلفائه الديكتاتوريين في ظل دعم البيت الأبيض، إلى جانب عوامل أخرى، إلى تورط غواتيمالا في حرب أهلية لأكثر من 30 سنة. وفقاً لتقرير لجنة تقصي الحقائق تم التوصل إلى نتيجة مفادها أن الجيش الغواتيمالي تلقى تدريبات وتمويلاً من أمريكا في الحرب الأهلية التي دامت 36 عاماً، وهي من أكثر النزاعات المسلحة وحشية في أمريكا الوسطى حيث ارتكبت إبادات جماعية. وثمة تقرير، كان بمكانة ختم الإقرار بسنوات من التعذيب والخطف وإعدام الآلاف من المدنيين في الحرب الأهلية الغواتيمالية، قدّر الخسائر في الأرواح بأكثر من 200 ألف شخص.
الآن سأعود إلى بداية البحث: إذا افترضنا وجود نظام شامل نسبياً يحتوي على العناصر المشتركة للحوكمة السياسية للعالم، واعتبرناه الأيديولوجيا الحاكمة على عالمنا السياسي، فستكون حقوق الإنسان أحد محاوره الرئيسية. أما أمريكا التي رأت نفسها متصدية لقيادة العالم وتوجيهه، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، من أجل إقناع الرأي العام والسيطرة على توجهات وسائل الإعلام في العالم، فدأبت على عزف سمفونية حقوق الإنسان والديمقراطية ومشاركة الناس في العمليات السياسية، لتحتل المرتبة الأولى في نظام الحوكمة العالمي. لكن تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية يظهر أن هذا البلد تصرّف كلياً ضد ادعاءات حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، خاصة تجاه الحكومات المستقلة التي لا تتماشى مع مصالح واشنطن. نتيجة لذلك هناك تناقض بين الأدبيات الإعلامية والسياسات العملية لأمريكا في مجال حقوق الإنسان، تناقض لا يمكن إنكاره.